في أوائل هذا العام، أعلن الرئيس الفرنسي، مانويل ماكرون، انتهاء عصر “إفريقيا الفرنسية”، داعيا لالتزام “التواضع” مع دول القارة؛ حفاظا على ما بقي مِن علاقات معها، إلا أنّه ربما لم يتوقّع أن
تتدهور العلاقات إلى ما وصلت إليه نهاية العام.
ورغم أن ماكرون كان يُعد بلاده لانسحاب عسكري تدريجي فإن وقوع انقلاب النيجر ووجود نظامَي حكم في مالي وبوركينا فاسو يرفضان “التبعية”، عجَّلا بهذا الخروج، الذي طال كذلك نفوذا ثقافيا واقتصاديا لباريس، ووصل لحد إغلاق سفارتها في العاصمة النيجرية، نيامي.
ويرصد محللون سياسيون لموقع “سكاي نيوز عربية” ما وراء هذا “التدهور السريع” لنفوذ باريس مِن كل جوانبه، وما يُتوقّع للعلاقات في المستقبل، مع تغلغل موسكو بقوّة في نفس مناطق النفوذ الفرنسية السابقة.
اعترافات ماكرون
في 27 فبراير، دعا ماكرون، خلال خطاب في قصر الإليزيه حول السياسة الفرنسية الجديدة في إفريقيا، إلى التحلّي بـ”التواضُع” في التعامل مع القارة، رافضا “المنافسة” الاستراتيجية التي يفرضها مَن يستقرون هناك مع “جيوشهم ومرتزقتهم”، في إشارة لروسيا.
في نفس الخطاب، تعهد بـ”خفض ملموس” لعدد الجنود الفرنسيين، مع بناء “علاقة جديدة متوازنة ومتبادلة ومسؤولة مع القارة الإفريقية”.
وفي مارس، وخلال زيارته للغابون، أعلن ماكرون أن عصر “فرنسا الإفريقية” انتهى، وأن فرنسا صارت الآن “محاورا محايدا” في القارة، بخلاف الماضي.
تسلسل أحداث الخروج
إلا أنه يبدو أن هذا الاعتراف والتحرّك جاء متأخّرا، فقد باغتت باريس عدة تطوّرات خرجت من النيجر وبوركينا فاسو ومالي، تضرّ بنفوذها على كل الأصعدة، منها:
22 ديسمبر، أنهى الجيش الفرنسي انسحابه من النيجر، وذلك بناء على طلب نيامي من باريس؛ نتيجة الدعم الفرنسي للرئيس محمد بازوم، الذي عزله الجيش النيجري في انقلاب 26 يوليو الماضي.
في نفس التوقيت، قرّرت باريس إغلاق سفارتها في النيجر “لفترة غير محددة؛ لأنها باتت غير قادرةٍ على العمل بشكل طبيعي”، كما جاء في بيان.
13 ديسمبر، أعلنت مالي بالاشتراك مع النيجر إلغاء الاتفاقية الضريبية المبرمة بينهما وبين فرنسا، الموقعة منذ أكثر من 50 عاما.
26 سبتمبر، أعلن المجلس العسكري في بوركينا فاسو تعليق عمل مجلة “جون أفريك” الفرنسية، بسبب نشرها مقالات تحدّثت عن توتر واستياء داخل القوات المسلحة في البلاد.
24 سبتمبر، منع النظام العسكري الحاكم في النيجر الطائرات الفرنسية من عبور المجال الجوي للبلاد.
في يونيو، تم الاستفتاء على الدستور الجديد في دولة مالي، والذي خفَّض مكانة اللغة الفرنسية؛ لتصبح “لغة العمل” بعد أن كانت لغة البلاد الرسمية.
في 2 مارس، أعلنت بوركينا فاسو وقف العمل بـ”اتفاق المساعدة العسكرية” الموقّع عام 1961 مع فرنسا.
18 يناير، طالبت السلطات في بوركينا فاسو القوات الفرنسية بمغادرة أراضيها في غضون شهر.
هذا العام، شهد تكرار مطالب قوى معارضة في تشاد تطالب بخروج القوات الفرنسية من البلاد، وخرجت احتجاجات في الشوارع بهذه المطالب.
متوقّع أن ينعكس كل ذلك على النفوذ الاقتصادي لباريس، مثل وقف تدفّق صادرات المعادن، خاصة اليورانيوم، الذي تعتمد عليه المحطات النووية في فرنسا لتشغيلها، واحتمال تعرّض شركات الطيران لخسائر كبيرة حال إغلاق المجال الجوي في وجهها، إضافة لأضرار تتعلّق بمشروعات خطوط أنابيب النفط والغاز التي تعبُر أراضي النيجر أو تبدأ من هناك وصولا لأوروبا.
قصر النظر”
المحلل السياسي المقيم في فرنسا، نزار الجليدي، يعتبر أنَّ عام 2023 هو عام “فقد النفوذ” بالنسبة إلى فرنسا في إفريقيا، لصالح الصين وروسيا.
ويُحمّل الجليدي ماكرون جانبا من المسؤولية لما وصفه بسياسة تتّسم بـ”قصر النظر”، منتقدا الفريق الدبلوماسي الجديد الذي عيّنه الرئيس، ولا يحمل خبرة دبلوماسيين لهم باع طويل في التعامل مع القارة.
ويستدلّ على ذلك، بأنّه صدرت مؤشّرات كثيرة مِن القارة تهدّد النفوذ الفرنسي (قبل هذا العام)، وأنّ تغييرات كبيرة قادمة في القارة، لكن باريس لم تحسن قراءتها واستغلالها، ولم يشفع لها وجودها الثقافي، وكان يجب مجابهة ذلك بتحوّل المعاملة مع المستعمرات السابقة إلى الندية.
نمو الوعي
ضمن “التغييرات الكبيرة” هذه وصول قادة جدد لعدة دول في وسط وغرب إفريقيا، يحملون رؤية ترفض التبعية لفرنسا، ويطالبون بتغيير العلاقات بما يُحقّق فائدة أكبر لبلادهم، وفق ما يعلّق الباحث السياسي التشادي، علي موسى علي.
ويلفت الباحث السياسي التشادي إلى أن “هذه التغييرات لم تأتِ من فراغ، بل لأسباب على رأسها زيادة الوعي بين شعوب القارة، خاصة الشباب الذي يربط بين أزمات بلاده وبين الهيمنة الفرنسية عليها اقتصاديا؛ ولدعمها حكّاما تابعين لها”.
وشجَّع على مزيدٍ من هذا الوعي، يتابع موسى: “ظهور لاعبين جدد على الساحة الدولية (في إشارة لروسيا والصين)، يبدو أنّهم شركاء مُحتملون يمكن الاستفادة منهم”.
تدهور أمني
تربط الدكتورة عقيلة دبيشي، مدير المركز الفرنسي للدراسات الدولية، بين الانسحاب الفرنسي المتتالي، وبين أمر إضافي، وهو “تدهو الوضع الأمني” في النيجر ومالي وبوركينا فاسو تحت ضغط الهجمات الإرهابية.
وتضرب أمثلة بأنّ مناطق في شمال مالي، منها تبمكتو تعرّضت لحصار من جماعات إرهابية، وإرهابيون آخرون يقتربون من العاصمة البوركينية واغادوغو؛ ما دفع النيجر وبوركينا فاسو ومالي لعقد تحالف عسكري بينها في سبتمبر الماضي لمواجهة التهديدات.
في ذات التوقيت، تقوّي تلك الدول علاقاتها بروسيا والصين عسكريا وأمنيا، بعد اتهامها لفرنسا بأنها لم تُقدّم ما يكفي لمحاربة الإرهاب خلال وجودها العسكري هناك.